جريدة الأنباء و الفنون

همس في حضرة سلطانة إشبيلية

البشير القريمدي

أربعون كيلومترا هي المسافة الفاصلة بين بلنسية وشقيقتها شاطبة، يربط بينهما طريق سيار، السير فيه مجاني، صدقة جارية من الحكومة الاسبانية. تحيط بالطريق، المستقيم إلا قليلا، مزارع شاسعة من أشجار البرتقال ذي اللون الأخضر الذي يريح عيون السائقين والعابرين. قطعت المسافة وأنا أقرأ أسماء المراكز الحضرية بين الشقيقتين الأندلسيتين، تبدأ أغلبها ب “ال” أو “بني”. هي أسماء عربية لكنها الان صارت مكتوبة بحروف لاتينية.. Alcántara de Xuquer ،Alcudia، , Alginet، Beneixida،Alberic، Benimuslim..) دخلت بلنسية وركنت السيارة في شارع رئيسٍ، لا يحرسه إلا الأمن الذي تنعم فيه كل شوارع المدينة.. اتجهت مباشرة لمجمع معماري يعرف باسم مدينة العلوم والفنون. كان المكان يمثل حقا فضاءً للعلم والطبيعة والفنون. اجتمعت كلها في تناسق وتناغم مذهلين، أينما وقعت العين رأت جمالا وبهاءً، كان الفضاء الفسيح المجمَّلُ بوفرة الماء ولونه البلوري الجذاب حقا شَرَكا للعيون وفتنة للرائي.

بعد أن أشبعت عيني النظر في أركان هذا المزار جميعها وفي ما يحتضنه من تحف فنية وعلمية، بدأت في التقاط صور البعض منها وأنا أنصت للغات المتنوعة، وأشاهد السحنات المختلفة من حولي أيضا.

تزامنت زيارتي بوجود مصور محترف يلتقط صورا لعروسٍ وعريسها، ويعمل على تعديل وضعيتهما باستمرار.

ينظرون ثلاثتهم إلى الصورة ثم ينتقلون لركن آخر لالتقاط المزيد، تساءلت: أكلما ارتفع عدد الصور كان الزواج إلى دوام؟.

مادة إعلانية

جوار هذا المزار المبهر أقيم مركز تجاري كبير اختير له من الأسماء “Saler” الشمس وزُيِّن بطيمة تناسب الماء والبحر والثروة السمكية. لست من عشاق هذا النوع من الأماكن، لا أدخلها إلا إذا كنت قاصدا شراء شيء محدد. لكن الشكل الهندسي لهذا المركز ولَّد عندي فضولا لدخوله، فسرت في اتجاهه ودخلت من بابه الرئيس وصعدت في الدرج الكهربائي طلبا لبعض الراحة. كان يعج بالناس ومتاجره ممتلئة عن آخرها.. يصطف الزوار في طوابير انتظارا لدخولها وطلب مبتغاهم من مثلجات الشوكولاطة أو وجبة غذاء سريعة. لمحت من بعيد مكانا يصطف الناس في مدخله. سرت في اتجاهه، ولما اقتربت منه قرأت لافتة علقت بأعلى بابه La casa del libro “دار الكتاب”.. حرك الاسم في نفسي شهية الدخول لهذه الدار. كنت أريد أن أستنشق رائحة الورق في الكتب الجديدة. لم أكن أنوي اقتناء أي كتاب. فلغتي الإسبانية بالكاد تمكنني من التواصل. كان الناس بالداخل من كل الفئات العمرية. عرجت على جناح الروايات وتصفحت بعض العناوين الحاصلة على جوائز، كانت بعضها مثيرة ومريبة، تحيل على مواضيع ما تزال تشكل عندنا طابوهات يكاد لا يجازف أحد ويخوض غمار التأليف والكتابة عنها.

في جناح الكتب التاريخية وقعت في الحب من النظرة الأولى. كانت ترتدي قفطانا أخضر اللون ورداءً أحمرَ يغطي رأسها وينسدل على كتفيها. اقتربت منها فأسكرني عطرها. كنت على وشك أن أهمس في أذنها وأقول: ما اسمك؟ ومن أي مكان أنت؟ تخيلت ردها بغنجٍ وهي تقول بصوت خفيض لكنه مسموع من عاشق ولهان: اسمي سلطانه، وأنا من الأندلس الشرقية. في هذه اللحظة، ما بين خيال وسحر واقع، تشجعت لمواصلة رغبتي في التعرف عليها ولمَ لا أن أعترف لها بحبي من النظرة الأولى.. وبينما أنا أدقِّق النظر في عينيها وحروفها الذهبية، فكرت أنه من واجب رجولتي على أنوثتها أن أعترف لها بهذا الحب من النظرة الأولى.. بادرتها قائلا بصوت متقطع خجول: أيتها المرأة الذكرى! أعطني يدك كي نسير في مدن الماضي! الذكريات معك تقودني وأقودها.. يا واهبة السلوان يا سيدة الإياب.. يا تاريخي .. يا قدري .. يا امرأتي من دون النساء.. بك أحتفي ولك أفي.. لن أرتدي حدادي ما دمت معي بل سأسير معك على هدي البصيرة وربما أعطي حكايتنا أنا وأنت سيرةً شخصيةً في رياحين حدائق الذكرى.. نظرت إليَّ بعدما نضج الفراق وعلى العيون أزهرت نظرات الوداع وقالت لي بلوعة الهائم المشتاق: كل فراق وأنتَ انتظاري.. كل فراق إليك افتقاري.. فاشهد بأني حرة وحية حين لا تنساني ولا أنساك!..

كنت أعيش هذا الحلم وأنا أسير بكتاب “السلطانة الأخيرة” ” La Última Sultana محمولا في يدي مضموما إلى صدري في اتجاه صندوق الأدء “لاكاخا”.

أديت ثمنَه بالعملة الصعبة مهرا كاملا.. وسلمني الكتبي عقدَ زواجنا، احتضنت السلطانة وخرجنا نتمشى في الفضاء البراني..