لم أكن أتخيل أنه بعد أن ولجنا باب سنة 2025، و البشرية تقف على مشارف ثورة تكنولوجية جديدة تقودها تطبيقات الذكاء الاصطناعي بحيث يصعب معها التنبؤ بانعكاساتها الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية على البشرية جمعاء، أنني سأصطدم بعقلية سلطوية تجعل من إجراء إداري بسيط للغاية مَدْعاةً لأن أكتب، و بمرارة، هاته السطور.
عايشتُ بداية الألفية الجديدة خطوات نجحت نسبياً في فتح صفحة جديدة من تاريخ المغرب، كان شعارها مفهوم جديد للسلطة و القطيعة مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الأنسان. بَيْد أنه، و للأسف الشديد، أدى تحالف اللوبيات و النخب التي تعتاش و تغتني من الريع السياسي و الاقتصادي إلى إيقاف عجلة التاريخ (و لو إلى حين)، مما أيقظ فينا (نحن معشر المواطنين البسطاء الذين يأكلون الطعام و يمشون في الأسواق) غريزة تحسس رؤوسنا، و مضغ كلماتنا قبل أن نتفوه بها حتى لا نصبح مطية لصنف من الفيروسات، يشق طريقه و يبني مكانته داخل المجتمع بفنون “التخلويض”، التي قد تخطر أو لا تخطر على البال، من وشاية و نميمة و تَمسُّح بأهداب ذوي الجاه و المال.
وحين أتأمل الرهانات التي تضعها الدولة المغربية المتعلقة بِتَبُّوء مقعدٍ آمن في الخريطة الجيوسياسية لعالمٍ غيرِ واضح المعالم قَيْد النشوء و التشكُّل، يصبح احتضان تظاهرة عالمية من حجم مونديال 2030، حلقة مهمة ضمن استراتيجية تحديث البلاد، و حافزا قويا لتحقيق قفزة نوعية على صعيد البنى التحتية و التجهيزات الصحية و غيرها من الأوراش التي كان العمل فيها، بحكم تفشي البيروقراطية و استفحال الفساد، يسير بخطى السلحفاة.
في ظل هاته الرهانات الكبرى لبلادنا، لم أكن أتصور أنني سأصطدم بإجراء إداري بسيط ظاهريا، لكنه يُسلِّط الضوء و يضع تحت المجهر أحد أعطاب الإدارة المغربية حيث “يجتهد” البعض ممن يُفترَض فيهم تطبيق بعض التوجيهات البالغة الأهمية (من قبيل تبسيط المساطر الإدارية، و تقريب الإدارة من المواطن) لإفراغها من مدلولها العملي، و تحويلها إلى شعارات جوفاء تؤثث الخطاب الإعلامي الرسمي.
بدأت الحكاية بتوجهي صباح الخميس 21 نوفمبر المنصرم إلى مقاطعة باب الرواح في مدينة تطوان (تقع بالغرسة الكبيرة)، و إيداعي ملفاً يتعلق بتجديد المكتب النقابي التابع للنقابة الوطنية للصحافة و مهن الإعلام المنضوية تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل. و لَكَم كانت دهشتي كبيرة حينما رفض تسليم الوصل المؤقت، و هو إجراء جارٍ به العمل منذ عقود تُحدِّده المادة الخامسة من القانون المنظم لتأسيس الجمعيات (ظهير 1958)، التي تؤكد بصريح العبارة على أنه بعد تقديم كل “جمعية تصريحاً إلى مقر السلطة الإدارية المحلية الكائن به مقر الجمعية مباشرة أو بواسطة عون قضائي، يُسَلَّم عنه وصلٌ مؤقت، و مختوم و مؤرَّخ في الحال”.
الغريب في الأمر، هو أن القائد المذكور تَعامل بنفس العنجهية حينما وضع المكتب السابق طلب الحصول على الوصل القانوني النهائي، و ذلك لأسباب لا يعلمها و يدركها إلا هو و الراسخون في علم البيروقراطية.
قبل أن أكمل حكي هاته الوقائع العجيبة، لابد أن أشير إلى أننا حصلنا على وصل الإيداع المؤقت يتضمن تاريخ 3 يناير و ليس 21 دجنبر (التاريخ الحقيقي لوضع الملف؟). بمعنى آخر فقد تطلب إنجاز هذا الإجراء البسيط أزيد من شهر و نصف من الانتظار، و القيام بجولة مكوكية و مرهقة، نفسيا و جسديا، ما بين المصالح المعنية في العمالة و الدائرة.
ختاما، لا يسعني إلا أن أتوجه للقائد المذكور بنصيحة ذهبية تتمثل في الرجوع إلى مقاعد الدراسة (و هذا ليس استصغارا منه، لأنني و على سبيل المثال كنت سعيدا للغاية، و قبل بلوغ سن التقاعد بسنوات قليلة بالرجوع للجامعة بغية إنجاز ماستر متخصص في الترجمة و الإعلام و التواصل، ثم مواصلة المسار الأكاديمي). فالعودة و الجلوس على مقاعد الدراسة في حد ذاته إعادة للتربية (ليس بالمعنى الذي استعمله عزيز أخنوش)، كما من شأنه جلب فوائد جمة لصاحبه، مثل إنعاش الذاكرة بشأن النصوص القانونية التي تؤطر الممارسة اليومية، إضافة إلى توسيع المدارك، و الرؤية الثاقبة لاتجاه الأحداث.