جريدة الأنباء و الفنون

عيون عراقية تقرأ أزمة الهوية في رواية “الموتشو”

رحمن خضير عباس*/شؤون

رواية ( الموتشو) آخر الأعمال الروائية للكاتب المغربي حسن أوريد، وهو كاتب له مؤلفات عديدة، ومنها (الحديث والشجن) و (المورسكي) التي صدرت بالفرنسية والعربية و (سيرة حمار)، إضافة إلى (سنترا) و(ربيع قرطبة) و (رباط المتنبي)، وهو حاصل على دكتوراه الدولة في العلوم السياسية، ويشغل منصب أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، فضلا عن كونه مستشارا لمجلة زمان المغربية.

صدرت (الموتشو) عن منشورات المتوسط لهذا العام 2023، وقد كان لصدورها صدى في الساحة الثقافية المغربية،ناهيك عن العربية، لأنها سفحت على سرير البحث والتقصّي بعض القضايا الإشكالية الحادة، والتي لم تألفها الأذن العربية أو تتعود عليها، وهي أزمة الهوية في عمقها وفي حمولتها الفكرية، سواء كانت من حيث الهويات الإثنية أو الدينية، التي تقاذفتها أمواج أزمان مختلفة وأقوام مهاجرة أو غازية أو داعية، تحت قحط الجغرافية أو ثرائها، لتبقى هذه الهويات وهي تشكو من التصدع أو التشظي أو البحث عن ملاذات للحماية والتمترس.

أنشأ الكاتب لروايته بناءً معماريا مختلف الأضلاع، حيث يبدأ بمحمد بنيس، الذي تعرض لغيبوبة طويلة، نتيجة حادث سير تعرض له، ورغم عدم ظهور هذه الشخصية على أرضية الرواية، وعدم قدرتها على الفعل، ولكنها ،وأعني شخصية بنيس، قد هيمنت على المُناخ العام للحدث الروائي، بل شحنته بقدرتها وخلفيتها الفكرية، فالرجل من الرعيل  المغربي الذي استشعر عمق الفجيعة العربية وبؤس الواقع، والخيبات التي توالت، لقد أدرك ذلك من خلال مجساته المعرفية وتجربته وقراءته للواقع، ولكنه الآن جسدٌ مسجى دون روح، وذلك نتيجة لحادث سير أدّى به أن ينام في غيبوبة مزمنة.

أما أمين كوهين فهو أكثر الأضلاع قدرة على حمل صخرة الفكرة المحورية للرواية، ومحاولة إيصالها إلى الذروة، كان يتعثر أحيانا، فتسقط منه صخرة العبء الذي اضطلع به، ولكنّ قدرته على التحمل بشكل(سيزيفي) جعلته قادرا على التقاط العبء من جديد في محاولة الوصول إلى الهدف المستحيل،فهو يحمل ملامح جيل جديد يتوهم ربيعا عربيا،ولكن أحلامه تتبخر، فيتعرض لهزائم متعددة،وهو امتداد لجيل بنيس الذي وصل إلى اليأس من خلال الغيبوبة على صعيد الرمز.

وأمين يشتغل في الصحافة، ولكنه لايستطيع أن يبوح بأفكاره اليسارية، لأنه يختلف اختلافا فكريا مع المنبر الفكري والعقيدي لتلك الصحيفة ذات التوجهات والميول الإسلامية التي يشتغل فيها، فلم تنشر آخر مقالاته، ولم تكتف بذلك، بل فصلته عن عمله ومصدر عيشه ونافذته للبوح بآرائه. ومن هنا تتجسد ملامحه التي تتضح للقارئ رويدا رويدا،فقد قام الروائي بعملية نحتٍ متأنية لشخصية أمين، حتى أنك تشعر بأن هذه الملامح تتغير بين الحين والآخر، ولا تستقر على حال لأن إزميل النحات يلجأ إلى التعديل في ذلك الجزء من عمله النحتي، فيغيره تبعا للظروف المحيطة.

فأمين يؤمن بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وهو مدمن على القراءة،باللغة الفرنسية والعربية، كما أنه مشبّع بأفكار كونية عابرة للمعتقدات من أوغسطين لدوبريه وسارتر وغيره من الفلاسفة التنويريين،كما أضاف إلى ذلك وعيا في الموروث العربي في الشعر والنثر، فهو يتعبد في محراب الحروف. ولكنّه لايستطيع صبرا أمام الخمرة والتي يعاقرها كل يوم، رغم أنه يميل إلى الكأس والكتاب، فيستغرق في الاثنين معا، ولكنّ الكأس قد أخذ منه الكثير ولاسيما في حادثة الاعتداء  التي تعرض لها من قبل بعض الحثالات من عصابات السرقة والجريمة، والتي تشكل القاع الاجتماعي لمدينة هائلة ومزدحمة كالدار البيضاء ، حيث تعرض لسلب نقوده القليلة وملابسه وتلفونه المحمول الذي يحمل فيه ذاكرته،ونتيجة للعنف التي تعرض له، فقد تحوّل إلى حطام بشري منكسر، بحيث أنه عاد إلى البار والدماء تسيل من وجهه المشبع بالكدمات، يستجدي عطف الجلاس الذين حسبوه شحاذا،فتصدقوا عليه ببعض الدراهم.  هذه الحادثة التي  عرّته من بعض نبله ، وجعلته شخصا ضئيلا بائسا، والذي تمثل بوسائل الاستعطاف التي مارسها، وهكذا فقد أهرق ماء وجهه في موقف سيترك ندوبا في ذاكرته.

لقد جعلته هذه الحادثة رهين غرفته، يلعق جروحه بألم وهو يتلظى بغَيرته تجاه عشيقته نعيمة، جعلت أيامه جحيما، وخلقت لديه رؤى مضببة، وكأنه يزور إسرائيل ، بدعوة من جهات رسمية، ويلقي محاضرة في تل أبيب عن العلاقات الشائكة بين العرب والإسرائيليين،ويبدو في محاضرته أنه يتبنى فكرة التعايش،وفي خضمّ تلك الرؤية، يزور مُتحف المحرقة، ويرى مدى الوحشية البشرية تجاه تدمير الإنسان، وكيف تتحول الضحية إلى جلاد آخر يمارس التمييز ضد عرب فلسطين في الأرض المحتلة.

ولعل القارئ قد التقط أنفاسه، حينما أظهر السياق الروائي، أن هذه السفرة مجرد هلوسات ورؤى ملتاثة لأمين وهو يعاني حالة مرضية عابرة، وقد استخدم الروائي تقنية اللاوعي في هذا الفصل ونجح فيها من الناحية الفنية.

لقد أبدع الروائي في تصوير مواقف حميمة بين أمين وبين عشيقته الطبيبة نعيمة، ويعتبر وصفه للتلاحم الأيروتيكي لجسدين ينجذبان لبعضهما، يحملان نوعا من الوهج الجميل، فثمة جمالية ودقة في التصوير، حيث الذوبان الجسدي والروحي تحت فحيح الرغبات المكبوتة، بحيث أن الرواية قدمت مشهدا يفيض بالألوان والأصوات ليعبر عن حدة الرغبات الجسدية، في وصف لمفاتن الأنوثة والفحولة في عناقهما، وكان يسمي الأشياء بمسمياتها، دون أن يلجأ إلى الاستعارة والمجاز، حيث يبدو أمين منتشيا بفحولته، وهو يخترق جدارا، ظنّه مغلقا، كما أظهر نعيمة المحجبة وهي تغرق في عربها، وكأنها تنتظر مثل هذه اللحظة وتحلم بها، لذلك فقد تخلت عن الحجاب الذي غلفت نفسها به، وارتمت في أحضان رجل لا تربطه بها سوى مشاعر القلق المشتركة، متناسية كل شيء إلا نداء الجسد ورغباته والتي تفجرت بقوة في يوم تأبين بنيس.

كان الروائي فنانا في دقة الوصف وتفاصيله حتى أنه رسم أجمل اللوحات الحميمية للعلاقة بين رجل وامرأة،وهما يندفعان بقوة الشبق المتبادل، وهذا يدل على امتلاك الرواية وقدرتها على الوصف بشفافية،دون التقيّد بالمظاهر أو بالتابوات التي تنأى عن وصف المواقف الحميمية.

ولم يكتف الكاتب بذلك فقد جعل من أمين شخصية دونجوانية، لا تصمد أمام سحر أية امرأة، بل يرى في أغلب من يلتقيه مجالا للرغبة، ففي تأبين بنيس أصبح مأخوذا بمفاتن الفلسطينية التي قدمت له كلمات العزاء،أو التعلق بكريستين فتاة البار الفرنسية في تلك الأمسية التي تعرض فيها لذلك الاعتداء، أو ربيكا التونسية التي كانت مرافقته في الرحلة الافتراضية في اللاوعي، وأخيرا شغفه بنعيمة التي أخذت شطرا كبيرا من الرواية.

كان أمين يعيش حالة اغتراب في هويته، فهو يساري الفكر والموقف،لا يؤمن بعقيدة دينية،رغم أنه ينحدر من عائلة مسلمة،لكنه ينوء  بعبء لقب( كوهين) الذي يحيل الذي يتعرفون عليه إلى أصول يهودية، رغم أنه يناصر القضية الفلسطينية ويؤمن بحل الدولتين والتعايش بين الأديان.

وبغض النظر عن الوجود الحقيقي لشخصية أمين كوهين أو عدمها، فتبقى من الشخصيات الروائية التي تمتلك حضورا وقدرة على الإقناع، فقد صاغها الكاتب بعناية وبشكل فني. وهذا ينسحب على عنوان الكتاب الذي اختار اسم الموتشو التي كان يطلقها محمد بنيس على أمين، ويناديه ب( موتشو). ولا ريب أن هذا العنوان، ونتيجة لغرابته، فقد منح الرواية غلالة من السحر والجذب لجمهرة القراء الذين وقعوا تحت تأثيره.

أما الشخصية المحورية الثانية فهي الطبيبة نعيمة بلحاج، وهي التي أشرفت على رعاية ومراقبة الحالة الصحية لبنيس، ولأن أمين كان يزور غرفته يوميا في المستشفى ، فقد تعمقت علاقته بها، رغم الفوارق بينهما في السن والمكانة الاجتماعية والحجاب،ورغم أن الكاتب يُقر “أنّ اللباس غير محايد، ولايمكن فصل الانتماء عن رموزه “ولكننا نرى سلوك نعيمة يلغي هذا التصور، ونكتشف بمرور الوقت، أن الحجاب رمز واه، وإنها اتخذته كنوع من المداهنة الاجتماعية والأسرية ،كما أن السياق يظهر تحررها وارتباطها بعلاقات عاطفية متعددة، ومنها علاقتها بالشخصية الغامضة التي أرسلت رسالة قديمة عثر عليها أمين في كتاب ريجيس دوبريه الذي استعاره منها. كما أن بيتها يضم مكتبة ذات اعتبار من خلال نوعية المؤلفات التي تتوزع بين الأدب والفكر والفلسفة. كانت نعيمة متحررة، تختبء تحت حجاب الالتزام الديني،ونكتشف في النهاية بأنها من أصول يهودية، تتخلى في نهاية الأمر عن كل التزاماتها وتهاجر إلى إسرائيل ، ملتحقة بحبيبها الأول أو زوجها الذي لم نر سوى ظلاله الباهتة في مجرى السرد. وهكذا فأن القارئ لايشعر بواقعية هذه الشخصية، التي لا تصمد لاختبار القص المنتزع من الواقع. ولكن للمؤلف الحق أن يبني شخوصه لكي يطابقوا الأفكار التي يحاول طرحها.

أما البقية الذين يلعبون في هذه الرقعة الزمنية ، محند الصحفي ذو الأصول المغربية الأمازيغية الذي تلاشى من الجو العام للرواية، بعد أن كان فاعلا، وذلك من خلال علاقته بأمين، وحواراتهما الساخنة  عن التهميش والحيف الذي لحقه، وتصوره بأن إسرائيل ديمقراطية ويلقي لومه على العرب. وإستير المغربية اليهودية التي تدافع عن الحق التاريخي لوجود إسرائيل،والتي وجدتْ في أمين ملاذا لهذياناتها عن الحياة والعشق والحقوق التاريخية لليهود،فهي تعيش حالة تشظي بين الهوية الملتبسة وبين أوهام الذات التي تبحث عن ملاذ عاطفي يحمي كهولتها، ماتت إستير دون أن تترك سوى صدى باهت عبر ذاكرة أمين.

وأخيرا بوشعيب، عساس العمارة الذي يوظف كل إمكاناته لمراقبة الآخرين ونقل أخبارهم إلى  (المقدم) فهو عين مجانية للسلطة،ولكنه في ذات الوقت يمثل الفطرة والبساطة وشظف العيش لقطاعات كبيرة من المجتمع، مزيج من الحكمة والسذاجة والزهد والطيبة والتطفل، يسمي الأشياء بأسمائها دون تصنع أو زيف، من خلال فطرة ريفية جلبها من القرية، لم تستطع أجواء المدن الكبيرة أن تلوّثها.   ولعل الحوار الذي يحدث بينه وبين أمين قد خلق نوعا من المتعة، وساهم في التقليل من خشونة الأحداث ، بواسطة ترطيبها بجو من الدردشة اللذيذة والدعابات العابرة،  كي يلتقط القارئ أنفاسه من المنعطفات الحادة للسرد الذي سلط أضواء كاشفة وسريعة إلى منعطفات وأحداث تعرضت لها هذه الأمة وما تزال.

جاءت الرواية متعددة في أصواتها، رغم أن بعضها طارئ وثانوي، ولكن هذه الأصوات طرحت أكثر من مأزق،ليس من أجل معالجتها أو وضع حلول لها، ولكنه مجرد تأمل لمراحل متتابعة من الخيبات والهزائم التي رافقتنا، وما الحوار الذي دار بين أبطال الرواية سوى أسئلة تدعو للتأمل، وتدعو أيضا لمراجعة الذات.لقد كانت نهايات الرواية مفجعة أيضا، فالأبطال يختفون من المشهد واحدا تلو آخر؛ بنيس يموت ببطء وهو يحمل أحلاما لم تتحقق، وأمين يعود إلى أمّه مثخنا بجراحه وخيباته، أما نعيمة فقد تخلت عن كل شيء في سبيل لا شيء.

رواية الموتشو عمل فني يحتاج إلى قراءة متأنية وواعية، فهو ممتع في طرح أوجاعنا، كما هو ممتع في بلاغته وعمق أفكاره.

 

*رحمن خضير عباس – كاتب عراقي