يعج العالم العربي بالطاقات الكبيرة في العلوم و الآداب و الاجتماع، و بقامات فكرية عملاقة أثرت الإنتاج الإنساني في مختلف مجالاته و مصباته، من حيث إن غاية كل سيروة فكرية يجب أن تنشد الرخاء، و تحقيق السلام و الازدهار، و إغناء و تسهيل مجالات الحياة و العلوم و الإبداع.
و لعل أبرز المفكرين المغاربة، بل و العرب الذين طبعوا تاريخ الفكر العربي في نهاية القرن الماضي و بداية القرن الحالي، مع استحضار السياقات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية المأزومة بالوطن العربي خلالها، هو عالِم الكونيات و المفكر الكبير المهدي المنجرة رحمه الله.
عالَجَ المرحوم عدة قضايا تؤرق الإنسان العربي و تُشغِلُه، و تَعَرَّضَ لإشكالات عويصة تُعجِز مُنَظري التربية و السياسة و الاجتماع. فقدم دراسات مستفيضة، و تحليلات دقيقة للأوضاع السائدة، و اقترح مقاربات تبتغي تجاوز الكثير من المشاكل بشكل عملي.
لعل أبرز ميدان تعرض له المهدي المنجرة بالدراسة و النقد و التحليل هو ميدان التربية و التعليم، من حيث هو المبدأ و المنطلق، و قد قاربه من موقعه أستاذا انطلق من المدارس و الجامعات المغربية و خَبِرَ كواليسها، و انتهى به المطاف مدرسا بالجامعات اليابانية و الأمريكية، و مُرَاكِمًا تجربة فريدة جدا لقربه و انخراطه في هذه الأنظمة التعليمية الرائدة، و استثماره هذا الزخم المعرفي و المنهجي للكشف عن أمراض التربية و التعليم في الأنظمة العربية، التي تعيق مسار التنمية المنشود.
تعرضت الكثير من كتب الراحل للتعتيم و التهميش، نظير انتقاده اللاذع لتغلغل الامبريالية في الدول النامية و تقويضها لمحاولات الإصلاح، خاصة تلك التي تنطلق من التعليم و المدرسة العمومية، وعيا من هذه القوى الكولونيالية بأن الطفل و التعليم هما مفتاح التحرر و بناء الإستقلالية، كما في كتابه “حرب الحضارات” المنشور سنة 1991م.
آمن المهدي المنجرة رحمه الله بأن المنطلق و المَعاد هو المدرسة و ذلك بالتركيز على إعلاء شأن الطلاب و الأساتذة، و إكساب هذه العملية صفة القداسة التي تليق بها، و كذا بتكريس النموذج للإنسان الناجح بالمتعلم و الأستاذ و المفكر عبر الإعلام و الفن، و تبخيس ما دون ذلك من توافه الأمور و هيّناتها.
نَبَّهَ الدكتور أيضا، إلى خطورة تغييب هذا المعطى عبر خلق أجيال معكوسة المفاهيم، غُذِيَت بأفكار التفاهة و الفوضى الفكرية، و قُدِّمَت لها قدوات زائفة، لا تخدم مسار التقدم في شيء، بل إنها تَحِيدُ به عن الوجهة الصحيحة.
إن تحقير المدرسة في نظر الأجيال، و التقزيم من شأن الأساتذة و العلماء، و ازدراء الإنتاجات الفكرية و العلمية، و إقصائها إعلاميا و اجتماعيا و سياسيا منابع للشر، و مقابر للطاقات، و لفرص اللحاق بركب الحضارات الذي يبتعد.
إن الفوضى غير المسبوقة التي تعيشها بلادنا العربية و الأفول الحضاري الفادح التي حل بنا، إنما هو نتاج ارتكاب هذه الأخطاء القراراتية العشواء، و القيام باختيارات لا تناسب هوية مجتمعاتنا، و ليست في مستوى طموحاتنا و تحديات الألفية الجديدة التي تؤمن بالسيادة العلمية قبل أي شيء آخر.
يقول الدكتور المنجرة: “عندما أراد الصينيون القدامى أن يعيشوا في أمان بنوا سور الصين العظيم، و اعتقدوا بأنه لايوجد من يستطيع تسلقه لشدة علوه، و لكن خلال المئة سنة الأولى بعد بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات! وفي كل مرة لم تكن جحافل العدو البرية فى حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه، بل كانوا في كل مرة يدفعون للحارس الرشوة ثم يدخلون عبر الباب.”
و يواصل: “لقد انشغل الصينيون ببناء السور و نسوا بناء الحارس، فبناء الإنسان يأتي قبل بناء كل شيء و هذا ما يحتاجه طلابنا اليوم”
يقول، في نفس السياق، أحد المستشرقين: إذا أردت أن تهدم حضارة أمة فهناك وسائل ثلاث هي: هدم الأسرة، ثم هدم التعليم، ثم إسقاط القدوات و المرجعيات.
و لكي تهدم اﻷسرة: عليك بتغييب دور اﻷم بجعلها تخجل من وصفها بِرَبَّةِ بيت – رغم أن مهمتها بالبيت من أقدس المهام التي اضطلع بها الأنبياء و الأمهات دون غيرهم و هي بناء الإنسان، و لكي تهدم التعليم: عليك بالمعلم، لا تجعل له أهمية في المجتمع و قلل من مكانته حتى يحتقره طلابه، و لكي تسقط القدوات: عليك بالعلماء، اطعن فيهم و قلل من شأنهم، و شكك فيهم حتى لا يَسمَعَ لهم و لا يقتدي بهم أحد، فإذا اختفت اﻷم الواعية و اختفى المعلم المخلص و سقطت القدوة و المرجعية فمن يربي الناشئة على القيم؟”