طلبت من مرشدتي أن تطلعني على بعض ملامح تاريخ هذا الصرح المعماري المهيب فقالت:
إن كانت فرنسا تفخر ببرجها الحديدي الباريسي فرمز رومها وقلبها النابض بالتاريخ الكولوسيوم، هذا المدرّج الضخم الذي يتوسّط المدينة، شيده جدي الإمبراطور فيسباسيان منذ أكثر من ألفي سنة. في العام 72م. كانت علامات الاعتزاز بادية على محياها وهي تواصل حديثها قائلة:
يمكنك أن ترى الكولوسيوم في أرجاء المدينة عن بعدٍ، لكن عظمته وعمقه التاريخي لا يظهران لك إلا حين تقترب من هيكله البيضاوي العملاق. فيمكنك آنذاك أن تلاحظ ما خلفته السنون من ندوب، بل وتقرأ على جدرانه عذابات وآهات العبيد وهم يُساقون لمصارعة الضواري. بل إن كنت محظوظا ومنقبا أثريا بارعا، قد تكشف موعدا غراميا قطعه عاشقان من القرون الأولى ما يزال محفورا ومؤرخا لعهد نُقش ووعد خُتم ظل محفوظا في الصخر.
كنت على وشك أن أطلب منها أن ترافقني لدخول هذا المبنى الرهيب، لكني آثرت أن أكتفي بشكرها لأنها سافرت بي حتى أوصلتني إلى القرن الميلادي الأول حيث يمكنك أن تقرأ نظرية شيشيرون حول السياسة والحكم. أكملت جولتي رفقة جحافل السياح من كل جنس. ولم أتمكن من البلوغ إلى هذا الزمن البعيد إلا بعد الوقوف في طابور طويل والمرور بعملية تفتيش دقيقية.
حينما خطوت الخطوات الأولى داخل هذا المبنى التاريخي، شعرت بالرعب وكأني أسمع صراخ آلاف من لقي حتفه هنا يصدح في الأرجاء. فهمست في نفسي : أحُفِرت آلامهم في ذاكرة المكان الذي غصّ في زمن مضى بمشاهدين شغلوا المقاعد كلها؟ في تراتبية اجتماعية قاسية، تصنف الناس حسب معيار مادي صرف، يجلس أصحاب الجاه والنفوذ في المدرجات القريبة من مكان العروض بينما تجلس الدهماء في الصفوف البعيدة، تفصل بينهما ممرات تحُول أن يجتمع الغني بالفقير؟!.
في اليوم الموالي، استقبلت الصبح وقد استعنت على إحساسي ببعض الإرهاق بفنجان قهوة الاسبريسو احتسيته هادئا رفيقا في مقهى La Casa del Tazza d’Oro ثم استنهضت شغفي باكتشاف روما وقصدت معلمة أخرى. قد وجدت أنه من السهل أن يزور السائح جل معالم هذه المدينة دون عناء، ففيها كل الطرق تؤدي إلى محطة روما تيرميني Roma Termini ومنها تنطلق الرحلات في كل اتجاه. ركبت الحافلة رقم 85 التي تمر بالقرب من نافورة تريفي Fontana di Trevi، وهي من أشهر النّوافير في العالم. يزورها السياح ويلقون فيها قطعا نقدية راجين أن تتحقق أمانيهم…
لما وصلت إلى النافورة العجيبة بعد السير قليلا في أزقة لا تبدو أنها تقود إلى معلمة بهذه الشهرة، هالني الزّحام حولها، والذي وجدته يفوق تكدّس السيّاح أمام لوحة الموناليزا في زاويتها في متحف اللّوفر في باريس، بشكل يفسد عليهم متعة رؤية واحدة من المعالم الأثرية الأشهر في العالم؛ حيث تبدو أقلّ حجمًا مما يتخيل السائح قبل زيارتها. ازدحم المرابطون في السّاحة الصّغيرة المحيطة بها، ينتظرون انفضاض الجمع للانفراد بها، وأخذ صورة تذكارية تؤرخ للزيارة والرجاء الذي من أجله قصدوها.
لما أخذت مكاني بين الزحام، وجدتني أسأل نفسي: أليس موضع بوزعافر في شفشاون والذي يحج إليه العديد من السياح من كل قطر جدير بأن يحظى ببعض اهتمام من القيمين على شأن السياحة في المدينة؟ وأن يجعلوا منه أسطورة وربما كنزا إنسانيا مفعما بالخصب يعود بالنفع الكبير على المدينة وسكانها؟ بحيث يتشوف السياح على أبوابه تحقيق أمنياتهم كما هو الشأن بالنسبة لهذه النافورة بدلا من أن يظل مكانا يجول فيه بائعو المخدرات لمن لا يعلمون أنهم مقدمون على سراب فيحسبونه ذا قيمة حتى إذا بلغوه لم يجدوه شيئا ؟
وضعت يدي داخل جيبي أبحث عن قطعة من فئة “واحد أورو” أمسكت بواحدة وأخرجتها فإذا هي درهم مغربي. هممت بإلقائه في النافورة، لكني ترددت وتساءلت:
ألن يعاني هذا الدرهم الرمادي اللون من التمييز والانتقاص من قيمته؟؟ حين يجد نفسه في القاع محاطا بقطع شقراء ذهبية اللون؟؟.. أي رجاء أفصح عنه أولا؟
تزاحمت الأمنيات في ذهني حتى صعب عليّ ترتيبها ودون أن أرهق ذهني بطويل تفكير ألقيت بالدرهم في النافورة ورجوت..
يتبع…