تعرف الجماعات المحلية تراجعا ملحوظ في ممارسة أدوارها التنموية و الاستثمارية، حيث باتت تفقد تدريجيًا العديد من اختصاصاتها التي خولها لها القانون، لصالح مؤسسات جهوية أو شركات خاصة تتولى إدارة قطاعات حيوية مثل النقل و الماء و الكهرباء و معالجة النفايات… هذا التحول لم يأتِ فقط في إطار تحديث الإدارة أو تحسين الخدمات، بل أدى عمليًا إلى تفريغ الجماعات المحلية من مضمونها التنموي، و تحويلها إلى مجرد مؤسسات إدارية محدودة الصلاحيات، تنشغل أساسًا بمحاولة تدبير الديون الناتجة عن مشاريع التدبير المفوض.
كان من المفترض أن تكون الجماعات المحلية ركيزة أساسية في تحقيق التنمية المحلية، من خلال إدارة الخدمات الأساسية مثل النقل والماء والكهرباء ومعالجة النفايات. إلا أن نقل هذه الاختصاصات إلى مؤسسات جهوية أو وطنية أدى إلى تقليص دور الجماعات المحلية بشكل كبير. فبدلًا من أن تكون فاعلًا رئيسيًا في التنمية، أصبحت مجرد وسيط إداري ينفذ سياسات تُقرر من قبل سلطات أعلى.
هذا التحول لم يكن فقط تقنيًا أو إداريًا، بل كان له أبعاد سياسية واقتصادية عميقة. فبفقدانها لاختصاصاتها، فقدت الجماعات المحلية جزءًا كبيرًا من شرعيتها في أعين المواطنين، الذين أصبحوا يرونها ككيان ضعيف غير قادر على تلبية احتياجاتهم اليومية. كما أن هذا التفريغ أدى إلى تراجع الاستثمارات المحلية، حيث لم تعد الجماعات قادرة على جذب المشاريع الكبرى أو إدارة الموارد بشكل فعال.
إن الجماعات المحلية تتمتع قانونا باستقلالية في تدبير شؤونها المحلية وفقًا لمبدأ اللامركزية، إلا أن نقل الاختصاصات إلى مؤسسات جهوية أو وطنية أضعف من قدرتها على المبادرة وصياغة مشاريع تنموية مستقلة. فمثلاً، لم تعد الجماعات المحلية قادرة على تطوير منظومة نقل حضري تناسب حاجيات سكانها، لأن تدبير هذا القطاع أصبح خاضعًا لعقود مع شركات خاصة غالبًا ما تُبرم بشروط غير متكافئة. والأمر نفسه ينطبق على تدبير الماء والكهرباء، حيث يجد المواطن نفسه بين مطرقة ارتفاع الأسعار وسندان غياب أي قدرة للجماعات المحلية على التدخل الفعلي لحماية حقوقه.
ومن جهة أخرى نجد أن إحدى الإشكالات الكبرى التي تواجه الجماعات المحلية اليوم والتي تزيد من أزمة استقلاليتها وفعاليتها هي الأعباء المالية الناجمة عن عقود التدبير المفوض، والتي غالبًا ما تكون مرهقة لميزانياتها. فالعديد من هذه العقود لم تحقق الأهداف المرجوة، إما بسبب سوء التقدير أو غياب رقابة حقيقية أو عدم قيام لجان التتبع بأدوارها، مما جعل الجماعات المحلية تجد نفسها ملزمة بتغطية العجز الناجم عن إخفاقات التدبير المفوض، بدلاً من استثمار مواردها في مشاريع تنموية مستدامة.
في مقابل هذا التراجع، نلاحظ تزايد تدخل سلطة الوصاية في تدبير شؤون الجماعات، بشكل يتجاوز مجرد الوصاية القانونية إلى التأثير المباشر في نوعية المشاريع واختيارات الميزانية. هذا التدخل، الذي يُفترض أن يكون محدودًا لضمان احترام القانون فقط، أصبح يمتد إلى تحديد الأولويات وتوجيه الإنفاق، مما يقيد قدرة المنتخبين المحليين على ممارسة أدوارهم بحرية. وفي كثير من الأحيان، نجد أن المشاريع التي تحظى بدعم السلطة المحلية هي التي يتم تنفيذها، حتى وإن لم تكن دائمًا متماشية مع الاحتياجات الفعلية للسكان.
هذا التوجه يطرح تساؤلات حول مستقبل التنمية المحلية، خاصة في ظل الدعوات المتزايدة إلى اللامركزية وتعزيز دور الجماعات المحلية في صنع القرار. فبدلًا من أن تكون اللامركزية أداة لتعزيز الديمقراطية المحلية والتنمية، أصبحت في كثير من الحالات مجرد شعارات تفتقر إلى التطبيق الفعلي.
لمعالجة هذا الوضع، من الضروري إعادة النظر في العلاقة بين الجماعات المحلية والسلطة المركزية، بحيث يُمنح للجماعات هامش أكبر من الاستقلالية في اتخاذ القرارات، مع تعزيز آليات الرقابة الفعلية لضمان نزاهة التدبير. كما يجب مراجعة عقود التدبير المفوض لضمان أن تكون عادلة ومجدية اقتصاديًا، بحيث لا تتحمل الجماعات المحلية وحدها أعباء الفشل.
ختامًا، لا يمكن الحديث عن تنمية محلية حقيقية دون تمكين الجماعات المحلية من أدوارها، بعيدًا عن هيمنة السلطة المركزية أو الأعباء المالية التي تعيق قدرتها على الاستثمار. إن إعادة الاعتبار للجماعات المحلية كفاعل تنموي وليس مجرد هيئة إدارية، هو السبيل الوحيد لضمان تنمية محلية مستدامة تستجيب لتطلعات المواطنين.