بهرجة المواقع والواقع:
راج على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا، شريط فيديو قصير يظهر شخصا يدلي برأيه في مسألة تعلم المرأة و ارتيادها سوق الشغل، و بعيدا عن الطابع الساخر للمقطع، و بهرجة استقاء آراء من هب و دب بخصوص موضوعات مجتمعية ذات حساسية بالغة، تسولا للمشاهدات، إلا أن إصرار المستجوب على وجوب توقف مسار المرأة الدراسي عند المرحلة الابتدائية صادم بشكل أو بآخر.
يمكن النظر إلى الشريط بشكل مبسط و تبني منظور متساهل إزاءه، كما يمكن استقباله بحس كوميدي على مضض، لكن المسألة تتخذ أبعادا اجتماعية خطيرة، عندما يتم الاستشهاد به في لقاءات نخبوية، و عندما يتناقله الأكاديميون و المفكرون، بغرض تصفية حسابات شائكة سنعرج عليها لاحقا، مع الجنس الآخر، و هو ما يمنحنا فكرة واضحة عن الشرخ الكبير في العلاقة الوجودية بين الرجل و المرأة التي يجب أن تنبني، عادة، على الود و الانجذاب و التكامل، أو يفترض أن تكون كذلك.
يجب التوقف للحظة عندما تطفو سجالات عنيفة، افتراضيا و واقعيا، لا تتورع عن استعمال أقذر الوسائل للنيل من الجنس الآخر، أما عندما تصبح الظاهرة شيئا شائعا عاما لا يقتصر على أقلية أو فئة، و عندما يأخذ المجتمع في التطبيع معها، فآنئذ ينبغي التساؤل باستعجال:
ما الذي يحدث أو بالأصح ما الذي حدث؟
النسوية، استلاب المرأة و أشياء أخرى.
لم تخلف الحرب العالمية الثانية مع كل ما خلفته من مآس، أفظع من إخراج المرأة لسوق الشغل، لأن ذلك كان ممنهجا و ذا مقاصد اقتصادية صرفة أولا. و لأنه لم يكن باختيار المرأة الواعي الحر ثانيا، و كما لا تصح في القانون و الفقه المعاملات الأكيدِ إبرامهما تحت كل ما يقع تحت مسمى الإكراه بمختلف الطرق المؤدية لهذا المعنى، فإن تشغيل المرأة كان استلابا واضحا لدورها الهام في تكوين بناء الأسرة الذي تم نسفه، بنسف المرأة، مكانتها، و قدسيتها، إذ فقدت تحت طائلة الحريات الفردية (التي توقفت حتى اليوم عند تمثيلية صورية في المؤسسات، و التدخين، و حرية ممارسة الجنس)، الحق في عدم الاطلاع على حميمية جسدها، و خصوصيتها و فرادتها في خضم العلاقات الجنسية العابرة التي حولتها لمنديل ورقي رخيص، و فقدت كذلك وقتها الفارغ الخاص، الذي لم تكن تكن تقتطع منه سوى ساعات يسيرة لأشغال البيت، مقابل ساعات العمل الطويلة داخل المصانع و المكاتب و الورشات التي تتطلب جهدا نفسيا و بدنيا رهيبا، أُعد له الرجال، لكن بنيات النساء الفيزيولوجية و السيكولوجية غير قادرة على مسايرة إيقاعه أبدا، خاصة على المدى الطويل.
الذكورية: شيطنة المرأة و أشياء أخرى.
من الطبيعي أن يبدر عن كل تطرف، رد فعل مقابل أكثر تطرفا. كما ظهر الإرهاب فقد ظهر اليمين المتطرف، و عندما استقوى اليسار كان سببا في ظهور الأصوليين المحافظين، لذلك فإن استفحال النسوية المتطرفة، التي حاولت مسخ المرأة إلى رجل، كانت سببا مباشرا في ظهور حركة red pill الذكورية المتطرفة. التي تحيل إلى المنظمات المناهضة للسياسات الحكومية عامة، و الفكرة مقتبسة من فيلم The Matrix الشهير حين يخير البطل نيو Neo بين الحبة الزرقاء و التي تحيل على الجهل و الطمأنينة، و الحبة الحمراء red pill التي تمثل المعرفة ثم المواجهة. حيث يعتبرون النسوية طريقة لتفكيك المجتمعات لتسهيل مسألة السيطرة عليها، إذ يؤمنون بنظرية المؤامرة بشكل بالغ، و ما المنظمات المنادية بالنسوية، حسبهم، سوى أذرع خفية للمتحكمين بمصائر الشعوب، لكن شيطنة المرأة تحت أية ذريعة أمر مرفوض، و اختزالها في القيام بالوظائف الفكرية العادية، و في الاكتفاء بالأشغال المنزلية و الإنجاب يعتريه قصور واضح، لأن العقل و الفطرة، يقرران لها الحق في التفكير و الإدلاء بالرأي في حدود اختصاصاتها التي لا تتقاطع مع المهام الأساسية للرجل. و لا يمنعها من أخذ المبادرة داخل ما يمتاز بكونه مجالا خصبا لخيالها و طاقاتها الفكرية.
أشياء أخرى:
إن الطبيعة في كل ثناياها المبهرة، لا تنفك تؤكد بأن علاقة الذكر و الأنثى لم تكن قط سوى علاقة تكامل، و رابطة جمالية مبهرة، لذا فالرجل كما المرأة يحتاج كل منهما للجنس الآخر، الذي يحقق له الإشباع على كل المستويات، و كل طرح يصر على إقصاء الآخر مدعيا الاكتفاء بالذات، هو تصور فيه ما فيه من شذوذ، و نحن هنا لا نختزله في الناحية الجنسية، بل هو شذوذ نفسي و فكري و اجتماعي، و كل تصور يقوم على شيطنة الرجل أو المرأة، و يتغذى على هذه النزعات المريضة محكوم بالأفول، لأنه يتنافى ببساطة مع نواميس الطبيعة، و أحكام التاريخ، و قواعد المنطق.
من الجاد، و المُلح، و المستعجل، العودة إلى إعادة ترتيب أولويات العلاقة بين الرجل و المرأة، و ضبط المفاهيم التي تحكمها، مع استحضار الشروط الموضوعية اليوم التي تحتم النظر إليهما و إلى أدوارهما بطريقة مختلفة، دون المساس بجوهر كل منهما، و ذلك على ضوء إنتاجات المفكرين السوسيولوجيين، بعيدا عن غوغاء المواقع و بهرجة مهرجي الواقع، التي لا قدر الله، ستقودنا، جميعا، إلى انتحار وجودي و اجتماعي محتوم.