الموت في البندقية.. والتوغل في الأعماق الإنسانية
رحمن خضير عباس/شؤون
إنها رواية متميزة في نضجها الفني وإمكاناتها الفكرية. تلك التي كتبها الروائي الألماني توماس مان في العقد الأول من القرن العشرين. ومع مرور أكثر من قرن على كتابتها ، ولكنها لم تفقد بريقها الإبداعي وقدرتها على شد القرّاء عبر عقود وفي مختلف البلدان، حيث ترجمت إلى أغلب اللغات. وقد طُبعت بملايين النسخ وهذا يعود الى قدرة هذا الروائي على التوغل في الأعماق الإنسانية لشخوصه وأبطاله ، وجعلهم يصارعون أحلامهم وأوهامهم في نسيج جميل من الشد الروائي الذي يجعل المتلقي مذهولا من هذا الفيض الفلسفي والفكري الذي يتسرب من سطور روايته المشحونة بجمال اللغة وعذوبة التقاط الزوايا المعتمة التي تحيط بالمشهد الحياتي اليومي. ليحيلها لنا على شكل تأملات ومشاهدات لا تنتمي إلى لحظتها الزمنية او المكانية فحسب، وإنما تتمدد لتلامس مشاعر الإنسان في نجاحاته وإخفاقاته ، وفي اهوائه ورغباته وأحزانه.
توماس مان المولود عام 1875 بألمانيا والذي شهد التصدعات في جسم الأمة الألمانية، ولكنه بقي مخلصا للأفكار الإنسانية النبيلة. لذلك اعتبره النازيون خصما لهم فاضطر أن يهاجر الى أمريكا، وحينما عرض الأمريكيون عليه الجنسية الامريكية رفض عرضهم بلطف وبقي محتفظا بجنسيته الألمانية . وقد كان معجبا بالروائيين الروس ولاسيما تولستوي. لذلك فقد كانت كتاباته تهتم بالهاجس الإنساني . ومع أن روايته (السقوط) والتي كتبها في بواكير مشواره الأدبي قد أثارت ضجة كبيرة في الوسط الثقافي. ومع ذلك لم يرض بإعادة نشرها، ووصفها بأنها لم تكن قصة ناضجة ! وهذا درس كبير للكثير من الكتاب. فما أن يكتبوا عملا حتى يعتقدوا أنه محور العالم.
ورغم قصر روايته ( موت في البندقية) التي تتعدى المائة صفحة بقليل. ولكنها كبيرة في قيمتها الفنية.
فهي تتناول شرائح من أعماق النفس البشرية وهي تواجه القدر والمصير. فرغم أن أشنباخ ، بطل الرواية ، وهو مؤلف موسيقي ولعله نفس الموسيقار الألماني جوستاف ماهلر والذي كان توماس مان معجبا به ، لذلك اتخذ منه مادة لشخصية روائية باسم جوستاف أشنباخ الذي يحاول ان يسافر كي ينسى ،ويأخذ قدرا من الراحة . فيختار مدينة البندقية الإيطالية ليقضي فيها بعض الوقت للتأمل والاستجمام . وفي ذلك الوقت يلتقي بعائلة بولونية تأتي لنفس الغرض أي الراحة وفي نفس الفندق السياحي المطل على البحر.
ويبقى أشنباخ معلقا بإطلالة صبي مراهق ووسيم ينتمي إلى تلك العائلة. ويعتبره شغله الشاغل. ويشعر الطفل بنظرات الرجل فيقابلها بشيء من الاغراء في حركاته المشاكسة أو بنوع من الغزل الإيمائي الذي يعتمد على حركات الجسد . ورغم ان الرواية انشغلت بهذا الولع ( المثلي) لكنها كانت تبحث عن الجمال الروحي الذي يقترب من حالات التجلي للمتصوفة وهم يتّحدون بالمحبوب ويحلّون فيه. كما أجاب الكاتب توماس مان نفسه حينما سئل عن هذا الامر فقال :
” إنّ افتناني بالجمال الإلهي الذي منحه الله للرجل ينبع دون شك من حبي لهذا الجمال الذي يتفوق في رأيي على جمال النساء ”
ولكن توماس مان أصبح مولعا بوصف الجسد الذكوري كمصدر للجمال ، والذي تكرر في عدد من رواياته كرواية( يوسف وأخوته) ورواية ( المخدوعة) وهذه الرواية أيضا. مما جعل الكثيرين يتهمونه بالشذوذ والمثلية.
ويظل بطل الرواية اشنباخ في مدينة البندقية. متعته البحر وتأمل الصبي الوسيم (تاديزو) من بعيد . وفي هذه الأثناء تتسرب أخبار مرعبة من داخل المدينة الجميلة. وهي موت الكثير من الناس بداء الكوليرا والتي تجعل الكثير من السياح يفرون من البندقية. فتصبح تلك المدينة الجميلة بأزقتها النهرية التي تمخرها الزوارق ذات الطراز الإيطالي خاوية إلا من أهلها المتعبين. ولكن إشنباخ الذي وجد نفسه محاطا بالحيرة والتردد ،واليأس والامل لم يستطع ان يتخذ قرارا بالهروب من مصيره .
فأصبح ضحية لهذا الداء الذي اجتاح المدينة. وقبيل ان يسقط صريعا كان الصبي تادزيو أمامه وكل واحد ينظر إلى الاخر بفزع. ويصف الكاتب اللقطة الأخيرة من الرواية بقوله ”
” كان يبدو له الفتى الشاحب والجدير بالحب هناك خارج الشاطيء يبتسم له ويلوّح بيده وقد نزعها من على خصره ، بإشارة الى الخروج والتحليق في السماء الى النهاية العظيمة الموعودة ”
لقد حاول المخرج الإيطالي الكبير فيسكونتي ان يترجم هذا العمل الفني الشيّق سينمائيا. ونجحت عبقريته في منح الرواية رؤية أخرى في شريط سينمائي بنفس الاسم ، أي موت في البندقية والذي تم إنتاجه في بداية سبعينات القرن العشرين ، ليظل علامة مضيئة في الإبداع السينمائي