خرجت ليلا في ظلام دامس من منزل بإحدى القرى المغربية النائية. ولعدم وجود إنارة خارج المنازل، بدأت أتحسس الطريق متجها نحو سيارتي التي تركتها خارج القرية.
لم أصل إلى هدفي إلا بعد جهد كبير لصعوبة وضيق الممرات. دخلت السيارة وبسرعة أشعلت إنارتها لكي أتخلص من ذلك الظلام الدامس، فإذا بي أرى شيئا غريبا: رأيت الأرض تتحرك أمامي، لا أخفيكم أنني شعرت بالخوف وعدم الاطمئنان… بدأت أتأمل فيما يتحرك أمامي، فإذا بي أرى عددا هائلا من الناس البسطاء، فقراء المنطقة، نائمون على الأرض، أيقظتهم إنارة السيارة فهمت فيما بعد أنهم لم يجدوا مكانا يِؤويهم ليلا غير الخلاء، كان ذلك بإقليم القنيطرة.
أما بإقليم “تنغير” فتلقيت صدمة أخرى عندما كنت بجانب مطعم فاخر أتأمل عدد السياح المتوافدين على المنطقة من كل أنحاء العالم بأجسامهم الضخمة والنظيفة والمليئة بالحيوية والنشاط، وعندما رفعت رأسي إلى أعلى الجبل رأيت أناسا من الساكنة المحلية بأجسام نحيلة ومتسخة وبنظرات شاردة، يتأملون في هذه الحركية بتمعن كبير وكأنهم غرباء عن المكان غير مستوعبين ماذا يدور حولهم، فهمت فيما بعد أن كل هذه الدينامية الاقتصادية والمشاريع السياحية سطرت خارج إرادتهم، وساهمت في تفقيرهم وتهميشهم أكثر، اكتشفت حينها عالما جديدا من الفقر مختبئا وراء أسوار تلك المطاعم الضخمة والفنادق الفخمة.
نفس السناريوهات تكررت بعدة مناطق وقرى مغربية أخرى، حيث رأيت الغرائب بمنطقة “بادس” و”سنادة” بالريف، ورأيت فقرا مدقعا بأماكن مصنفة منتزهات وطنية كمنتزه يفران ومنتزه الحسيمة ومنتزه تلامسطان وبوهاشم بضواحي شفشاون ومنتزه تازكا بتازة وغيرهما.
رأيت ساكنة بوطيب تتعذب من أجل قطرات مياه رغم أنها بجوار مدينة الرباط الغنية، رأيت بين يوعرفة وفجيج فقراء محليون يجمعون “الترفاس” بطرق صعبة لا يعرفها غيرهم تحت شمس حارقة وجو حار تطلق عليه الساكنة اسم “الحمان”، يجمعون كل تلك الخيرات لسماسرة اغتنوا كثيرا من هذه التجارة المربحة وازدادوا هم فقرا على فقر. رأيت في عين ولاد جرار وآيت باعمران من فقر ما لم أره في غيرهما، رغم تاريخهما الحافل بالكفاح من أجل وطن موحد.
من خلال كل ما رأيت تبين لي بالملموس أن المغرب مغربان: مغرب الأوراش الكبرى والمشاريع الضخمة والرفاهية واقتصاد السعادة، ومغرب منسي، مازال فيه الفقر ضاربا أطنابه، إنه مغرب التناقضات، المغرب المنسي والمغرب المحظوظ…