جريدة الأنباء و الفنون

الفضاءات التراثية بالمدينة العتيقة بتطوان: دعامة أساسية في تحديد الهوية المجالية (2)

د. نورالدين أشبون / متخصص في قضايا التراث بجامعة عبد المالك السعدي

2 نظام الفنادق التاريخية بمدينة تطوان

تتركز بمختلف أحياء المدينة العتيقة كما في الحي العصري (الإنسانشي) فضاءات عمومية تعرف بالفنادق جمع فندق، وهي عبارة عن مبنى تتوسطه ساحة كبيرة، يخصص الطابق العلوي للوافدين له، والساحة للدواب من حمير وبغال وغيرها أما الدكاكين الموجودة به للبضائع والسلع التي يشترها الوافد أو التي يبيعها. فمنها من يخصص لتجار الدواب ومنها ما يخصص لتجار المواد الفلاحية ومنها للصناع والحرفيين ونحو ذلك. أغلب الفنادق في تطوان تم بناءها في القرن 18 الميلادي، واستمرت في تأدية دورها إلى حدود ستينات القرن الماضي. وقد شهدت هذه الفضاءات أغلب المعاملات التجارية وحتى الصناعية التي كانت تعرفها مدينة تطوان باعتبار أنه المكان الوحيد بعد الزوايا والمقامات الشريفة واسقالة التي يلج لها أغلب التجار والصناع الوافدين، من أجل شراء المنتوجات المنتجة في مدينة تطوان أو بيع المنتوجات، فهذا الفضاء الشعبي والعمومي اليوم انعدم دوره نظرا للتقدم الكبير التي عرفته دور الإيواء بمختلف أنواعها. ولكن رغم ذلك تضل الفنادق جزءا من ذاكرة المدينة الحية في فترات تاريخية مهمة، شهدت ازدهار تجاري وصناعي للمدينة، وتوثق لنمط عيش السكان في فترة زمنية. ففي دول كإسبانيا أصبحت هذه الفنادق متاحف يزورها السياح بكميات كبيرة بل لها زوارها الخاصين باكتشاف مثل هذه الفضاءات التراثية، أو مستمرة في أداء دورها الإيوائي أو مركز لإيواء الدواب التي تستعمل وسط المجال الحضري. في مدينة تطوان للأسف غابت خصوصية ومميزات الفنادق بشكل نهائي كما غابت كل الممارسات والحياة المعيشة فيها.

المصدر: استغلال شخصي لمعطيات البحث الميداني 2020

 

3-العادات المرتبطة بالأفران التقليدية بمدينة تطوان

الخبز من المواد الغذائية الأكثر أهمية في ثقافة الأسر المغربية والتطوانية خصوصا، حتى أن معيار إتقان إعداد الخبز، يعتبر مهما بالنسبة للرجل المقبل على الزواج، والفرن من الفضاءات المرتبطة بهذه المادة الحيوية، والذي يعتبر المنتوج الوحيد لها، كما أن الفرن من الفضاءات المهمة، التي تسهر على تقديم العديد من الخدمات للسكان والدليل على ذلك عند بناء مدينة تطوان من طرف سيدي المنظري، قام بوضع تصميم المدينة يضم الجامع والفرن والحمام كأول ثلاث مرافق عمومية وضرورية للساكنة.

ذكر عدد من الباحثين المهتمين بالتراث المغربي، أن الأفران التقليدية موروث ثقافي له مميزات معمارية غاية في الدقة والإتقان، إذ اهتدى صانعوا هذه الأفران إلى جعلها في طابق سفلي وأخرى في طابق علوي وأغلبها مبلطة بمادة الزليج في مداخلها ومخارجها، هي لا تبعد سوى بمسافات صغيرة وأمتار قليلة عن المساجد والحمامات والأسواق الشعبية داخل الأحياء العتيقة. فالحقيقة للفرن دور كبير في نمط عيش الساكنة التطوانية، حيث تقوم عليه كثير من الأعمال البيتية، من طبخ للخبز وأنواع الطواجين والأكلات الرفيعة كالبسطيلة، ولن ننسى أنواع من الحلويات التي تتفنن فيها ربات البيوت، التي تقوم بعجن خبز المائدة بنفسها في الصباح الباكر، وتنتظر حتى اختماره لكي ترسله للفرن مع صبي أو شاب يسمى “الطراح” الذي له دور جمع “وصلات الخبز”[1] ونقلها للفرن، يقوم المعلم بوضعها في الفرن الساخن ذو الجمر الملتهب عن طريق لوحة خشبية طويلة المقبض تسمى “المطرح”، حسب جاهزيتها للطهي أو حسب الرتبة التي وضعها الطراح أمامه. هذه المهنة متعبة جدا وخصوصا في فصل الصيف، أما الخشب المستعمل في إشعال النار لطهي الخبز، إما شجر الصنوبر أو العرعار. كما يقوم المعلم في الفران بخلط وإنتاج الحلوى المسماة “بشكيطو” الذي يصنع من البيض والزيت والسكر حيث كانت الأسر في المناسبات تفوض للمعلم في الفرن عملية إعداده. وكان أجر المعلم خبزة وتسمى الكبيرة، وأجر الطراح خبزة وتسمى الصغيرة أو “البويا”. كل هذه الخدمات التي كانت تقدمها الأفران، انضافت لها خدمات أخرى في وقتنا الحالي وهي إعداد الحلوى بمختلف أنواعها، وإعداد المالح المتكون من أصناف عديدة مثل “البروك والبانديات” وغيرها… وأكثر من هذا أصبحت الأفران تنتج الخبز بمختلف أنواعها، إذ يطلبها المستهلك أكثر من خبز المخبزات الحديثة، نظرا لأن خبز الفرن التقليدي يطهى على الحطب وبالتالي يكون طبيعيا خالي من المواد الكميائية. حاليا توجد في تطوان ما يقارب 100 فرن تقليدي منها 37 في المدينة العتيقة وأخرى خارج أسوار المدينة. كلها تشتغل بصفة يومية، لكن للأسف اندثرت بشكل كلي مهنة الطراح، حيث لم يعد أي واحد في تطوان لا في المدينة العتيقة ولا خارجها، وبالتالي اندثار جزء مهم من ذاكرة الفرن التطواني، في حين أن الأفران الآن أصبح دورها بيع الخبز أكثر من طهيها وهذا أيضا ما أسهم في تحريف دورها الأساسي التي وجدت من أجله. إلا أن ذاكرة مدينة تطوان اليوم، تصارع من أجل أن تحفظ تلك القصص التي تنسج حول شخصيتا “الطراح”و”المعلم” بحضورهما المميز وسط ساكنة أحياء المدينة العتيقة. ترتبط مظاهر التمدن السريع الزاحفة منذ سنوات إلى هذه الأحياء، إذ استحدثت وسائل جديدة استغنى الناس من خلالها عن خدمات الفرن التقليدي، فاستجلبت النسوة إلى بيوتهن “أفرانا منزلية” يطهين فيها الخبز، دون الحاجة للالتزام بتوقيت عمل فرن الحي، وفتحت مخابز عصرية أبوابها، أعفتهن حتى من عناء عجن الدقيق ليصير رغيفا، فصار الخبز مادة تستهلك كباقي المواد الأخرى تجلب من الدكاكبن عند الحاجة، ولا تذخرها البيوت طوال اليوم كما في السابق، ولا تقضم قطعها ساخنة، زكية الرائحة، طيبة المذاق، بل يقنع أهل البيت برغيف الخبز الذي يأتي به من البقال المجاور باردا دون رائحة تميزه.

 

 

يُتبع…

 

[1]-الصينية الخشبية الذي يوضع فيها الخبز لينقل للفرن.