ولّت إذن هذه الأيام التي وسمها الخطاب القرآني البليغ بتعبير “أياما معدودات” معدودة الكم والكيف، غزيرة العطايا والأثر.
بيّنٌ أن الأنام متباينون في تعاطيهم مع الشعائر الدينية تبعا للتنشئة والخلفية الإيديولوجية والمحيط، إذ تجد بعض من يُكسبون هذا الشهر قدسية تتجاوز أحيانا إلى الخرافة والدجل، تُعضّدهم في ذلك بعض النصوص النقلية الدينية التي تحوم حولها علائم الإستفهام في مبانيها ومعانيها وخيوط تواترها إلينا، ومع جواز الإعتداد بها موعظةً يجب الإنتباه لخطر نسبها للرسول الكريم يقيناً.
أما الصِنْو الثاني فهو الذي يرى في هذا الشهر مجرد تقليد متوارث نزّ في لحظةٍ وسار على نهجه السائرون الساذجون، ويسوقون من الدلائل ما الأنثربولوجيُّ به عليم، شأنَ الفرنسي كلود ريفيير الذي يقول : «الشعيرة عبارة عن مجموعة من الأفعال المتكررة والمقننة التي تحظى غالباً بالاحترام، ولها نظام تأدية شفهي أو حركي، ومحملة بالرّمزية، وقائمة على الإيمان بالقوة الفعالة للقدرة العليا التي يحاول الإنسان أن يتصل بها بغرض الحصول على نتيجة مرجوة»
أي أن ما يمنح هذه الشعائر قدسيتها هو العقل الجمعي الحريص على الوفاء لها فقط.. على أي فهؤلاء وإن كانوا لا يؤدون هذا الفرض الديني فلا أرى – من معاينتي الشخصية – من يُشنّع منهم على الصائمين ولا من يضيق عليهم، إلا من نذر يسير من المراهقين (مراهقي الأجساد والفكر) الذين قد تختلط لديهم القناعات بالهرمونات وهؤلاء لا نلقي إليهم بالا.
آتي لصنف مغاير لا ينكر هذه العبادة ولا ينأى بنفسه عن حلقة المنتسبين إليها غير أنه يُمعن في انتقاد الكثير مما يتصل بها من طقوس والتزامات ويعتبرها مجرد مواسم اقتصادية صرفة يقف خلفها أرباب النقل العمومي وتجار الألبسة والأطعمة والسيارات والأبخرة والعطور والأواني، يشمل ذلك كل تجار الدين بمختلف أصنافهم…
ينتقد هؤلاء إضفاء الصبغة القدسية على هذه التمظهرات والشعائر، لكن هذه الموجة التشنيعية التي تتعالى في كل مناسبة دينية غير دقيقة، فحتى مع تحول هذه المناسبات لمواسم رواج تجاري كبير فإنها تنطوي على الكثير من خصوصيات أعيادنا التي تتصل بماضينا كمغاربة وكمسلمين وهي من مقومات وجودنا الحضاري الذي يستحسنه حتى غيرنا من يهود ومسيحيين وهو ما لا يمكن أن نتنازل عنه تحت أية دعوى كانت لأنها ما يعطي لهذه الشعائر بعدا روحيا مصحوبا بالعديد من القيم التي حث عليها الإسلام كصلة الرحم والتكافل وإظهار الفرحة وإشاعة مظاهر الإحتفال والسرور..
وإذا انسقنا وراء هذه المبررات الواهية فإن ذلك يعني انسلاخنا من كل ما يكوّن نوستالجيانا الجميلة التي نحِنّ إليها كل حين من زكي العطور والأبخرة وشهي الأطعمة صباح العيد، وشجن الطرب الأندلسي وخشوع المصلين في المصليات ووحدتهم، وزهو الحنّاء في الأكف والأقدام، وغبطة اللقاء بعد طول فراق تستلزمه شروط الحياة المتعبة.
أما ما يصح التنبيه إليه حقا هو ما ينجرّ إليه الكثيرون للأسف البالغ من السباق المظهري المحموم في إظهار الغنى أو “التفوق” الإجتماعي بلباس أو مركب أو مطعم، ما يجعل المسحوقين بين مطرقة مجاراتهم في غير مقدرة فيكلفهم ذلك من دمهم وراحتهم، أو الإسلام للوضع في دونية وذلة.. وما يوجع أكثر هو وقوع نفسيات الأطفال ضحية لهذه اللعبة المادية القذرة بما فيهم الأيتام أو المتخلى عنهم..
يخاطبنا القرآن أيها الأحبة مرة أخرى “ومن يعظم شعائر الله فإن ذلك من تقوى القلوب” ملتمسا منا تعظيم الشعائر من صلاة وصيام وقيام ومستلزماتهما من رحمة وحسنى وإيثار وعطف وتقاسم وبذل..