جريدة الأنباء و الفنون

الحياة الروحية الفريدة لساكنة شمال المغرب : الأصول والامتدادات

أجدور عبد اللطيف

لا يلفظ أحد هنا اسم الجلالة “الله” دون اتباعه بوصف “الحبيب”، يقولون : “الله الحبيب يقول لنا.. يأمرنا الله الحبيب.. يحبنا الله الحبيب..”، ولا يكاد أحدهم يذكر اسم الحبيب الآخر محمد إلا وقرنه بصفة مولانا أو سيدنا، بل إن الأذان في أيما مسجد حضرته هنا يتشهد فيه بالقول : أشهد أن “سيدنا” محمد رسول الله، على ما في هذا القول من مقال… إن حتى استهلالياتهم لصلاة الجمعة المعروفة في المذهب المالكي كذلك : روى إمامنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج… تكون مسبوقة بترانيم مدح، وأشعار التصوف في التغني بالعشق الإلهي والحب النبوي.

تلك آثار يسيرة من عشرات القرائن التي تغص بها الحياة اليومية الشفهية والمادية لساكنة شمال المغرب، والتي تعكس روحانية منقطعة النظير لم أجد لها مثيلا في باقي الربوع، إن القوم متشبعون بمعاني المحبة والوله والعشق الصوفيين، مستفيدين في ذلك من تراكم بديع للأولياء الصالحين والمتصوفة العارفين، ولعل زواياهم وقبابهم التي تضج بها وزان وشفشاون وطنجة وتطوان، تؤصل لهذا الاهتمام الكبير بتقديس الشعائر المرتبطة بالعبادات والمناسبات الدينية، فإلى اليوم ما تزال بيوت ورياضات في تطوان وشفشاون تحتضن ليلة كل جمعة جلسات عفوية بين النسوة، تدعى الحضرة محيلة على النزول بحضرة الرحمن وروح أمين سره محمد عليه السلام، مع أن الجذور التاريخية لهذه العادة تعود للأندلس..

تتغنى في هذه اللليالي الغواني الشماليات بأشعار وابتهالات أعلام الزهد والتصوف، كمولاي العربي الدرقاوي المؤسس للزاوية الدرقاوية، وعبد السلام بن مشيش، وأحمد ابن عجيبة الحسني، والمسفر السبتي، ومحمد الهبطي الصغير، وآمنة بنت خجو الحسانية، وأبو العباس السبتي، وأحمد بن عبد المؤمن الغماري، والمفضل أزيات الخرشفي، وعلي بن ميمون الغُماري، ومحمد بن محمد الجني…

كما تنظم مقاهي بمبادرات ذاتية من الملّاك وبعض فرق الطرب الأندلسي، ليالي السماع والمديح وتكون مفتوحة في وجه الجميع بشكل عفوي حميم، كما هو الشأن بمقهى حنفطة بمنطقة مرشان الذي يحتضن كل ليلة جمعة ليالي أندلسية ترحل بشباب طنجة إلى ذاكرة الشمال المغربي، المحيل بقوة إلى تاريخهم بالأندلس التي ماتزال تنبض في ثنايا الوجدان، وكذا إلى العوالم الروحانية التي تجعل شباب المدينة ذوي تمسك بالتعاليم الدينية، وأصحاب فكر محافظ يتمثل الأعراف والتقاليد بشكل يفوق ما يلاحظ عند قرنائهم ببقية المناطق بالمغرب، إلا ببعض المناطق المحدودة بسوس..

في مقهى حنفطة المذكور، يتلاحم شيوخ يجاوز أصغرهم الستين من عمره، لحى فضية تؤثت تقاسيما لاطفها الزمن حينا وشاكسها أحيانا، عيون متعبة لكنها فرحة باللحمة مع قرناء الأمس، وبالدفء والجمال في حضرة الملحون المؤدى على نوبة الاستهلال، ينخرطون في غناء جماعي يتغنى بالمحبوبة وبالديار وبالأهل وبالله والرسول والمعرفة والتصوف، بالفرح والعفوية نفسها التي ينخرط بها تلامذة مدرسة في عزف النشيد الوطني قبل كل يوم دراسي.. يقطعون العزف الجماعي الكورالي في حزم ليصلوا العشاء جماعة ثم يعودون لأماكنهم وما زادتهم الصلاة سوى رقة وهدهدة، إنها طقوس جمالية راقية لم يخبرهما الكثيرون من سكان المغرب، ينعم بها هؤلاء في تبجيل وحرص من يحنّط الذكرى ليدافع بها مستقبلا لا تؤتمن تقلباته.