لو حدث وصادفت جائعا متشردا في الزقاق وسألته طامعا في ثمار المقولة : خذوا الحكمة من أفواه المجانين، على أن الجائع مجنون بشكل أو بآخر لأخبرك بأن سعادته موقوفة التنفيذ تكمن الآن في طبق لحم دسم وسلطة متنوعة، ولن يضر طبق من الفواكه الموسمية مع تحلية فاخرة، أما الذي لم يملك قط سيارة فسعادته ستكون حتما في أن يحصل على رويز رويس بنسختها الأخيرة التي رجت الأسواق العالمية رجا، أما السجين فسعادته أن يتوه قرب شط بحر طنجة مجددا، أن يسمع بذاءات الأطفال وتوعدات النساء في الأزقة الشعبية المتسخة، وأن يشم روائح العاهرات النافذة وشذى الكيف البلدي ينبعث من سبسي قديم لميكانيكي دكالي بغيض، أما أحد الشباب الذين لم يروا قط الطائر النادر توتو فأن تمكنه من حسناء شقراء خمصاء سيعادل عنده الأكل والحرية والرويز رويس.
إن حاجات كهذه، سعادات كهذه.. مرتبطة بحالات مؤقتة وموقوتة، إذ ستندثر سعاداتهم اللحظية تلك بمجرد حصولهم على مبتغياتهم، ليعود الفراغ المرير فيسكن ثنايا النفس ويلتهمها، أين نجد السعادة إذا!؟ دعونا أولا نتحدث هنا عن السكينة فقط أو تحقيق قدر من الرضا المسترسل للنفس في ارتباطه بعنصر نضمن استمراريته وعدم فواته، حتى لا أجازف بالحديث عن السعادة ونحن كبشر لم نتفق بعد ما السعادة وهل هي ممكنة أصلا! وأشترط هنا الاستدامة والاستمرارية لتنتفي معه حالة السكن والطمأنينة تلك التي يحقق الشبع والامتلاك والحب بشكل لحظي متفلت واهم وهائم، راهن وواهن.
دعوني أقترح المعرفة كعنصر مستدام يمنحنا جميعا قدرا كبيرا من الراحة والرضا الماتع، ثم دعوني أبين قبل أن تحتجوا على وتقذفوني بالضلال المبين، إن المعرفة أيها الأحباب لا ترتبط بحال بعامل الزمن رغم تجدد منابعها ومسارات جداولها، فإننا لم نجد قط من العلماء والمفكرين والأدباء من ادعى وصوله حدا اكتفى معه من المعرفة، بل إن لذتها متزايدة وسلطانها محكم ورفعتها لا تبيد وأسرارها لا تحيد، وغناها لا يساوَم وسحرها لا يقاوَم، إنها كقصر فخم أرستقراطي كل ازددت فيه تعمقا ازددت به تعلقا، وكلما مضيت متقدما ظللت متنعما، إن المعرفة إزالة للحدود وهتك لستائر الوجود، ومعرفة بشساعة ما نحتاج لمعرفته، يكثف الشافعي هذا المعنى ببراعة قائلا : وكلما ازددت علما ازددت علما بجهلي.
لا ينفي ذلك أن بعض الناس لا تستهويهم المعرفة بقدر ما يستلبهم الجنس أو الدولار أو السفر أو أخبار نادي برشلونة أو القمار أو الشمبانيا أو السرقة أو السياسة على أن العنصرين الأخيرين نفس الوجه لعملة تملك وجها وحيدا هو النذالة. لكن تفرق الناس كل هذا التفرق لا يعني مقتهم للمعرفة بذواتهم لذاتها، بل هم ببساطة يأنفون مشقة تلك الطريق وعسر مهمة السير وراء منعرجات الوعي الصفيق، ومع ذلك لا يمكننا مؤاخذتهم ولا يخول ذلك لأحد انتقاد آخر فقط لأنه يعشق السباحة على الظهر إناث بينما هو يحب سباق البعير على ما بينهما من بون شاسع واضح أيها العقلاء.
لا نتصور أن هناك من لا يحتاج لمعرفة من أين أتى، وإلى أين يسير، وهل يملك إرادة تامة مطلقة أم أن يداه مصفدتان وخياله وحده منطلق، ولم جاء في جسد أبيض وليس أسود، أو أنحف لا أتخن، ولم أنثى وليس ذكرا ولم صينيا وليس صينية أو برادا.. وهل يمكن أن ننفلت ذات يوم من الزمان والمكان، أن نفلت من الفيزياء وأن نفلت من الوعي بل وأن نفلت من التساؤل بضراوة، إنها أسئلة عصيبة أيها السادة بالتأكيد، ومحكومة بالنقاشات والفلسفات على وجه التأبيد، منذ فجر التاريخ حتى زوال الكون إلى كينونة وكون جديد.
وهذا ونحن نطلق المعرفة نريد بها إدراك الأشياء كينوناتها ومكنوناتها وتكوينها والتفاعلات التي تكونها مع المكونات التي حولها، فماذا عن معرفة المالك وإدراك مبدع المدارك، إنها أعلى أنواع مراتب المعرفة رفعة وصنعة، وما جمال ما ذكرناه المعارف الإنسانية ولذتها إلا لكونها ممرا إلى المعرفة المطلقة وهي معرفة الإله العظيم، حتى وإن كنا على وجه التحقيق والتأكيد لا نستطيع الإلمام بها بشكل شامل وتام وناجز، إنما هو اقتراب مشوب بالسكينة والرهبة، والقداسة والرغبة، فلو كانت ممكنة ما صار الجبل دكا، وما خر موسى صعقا.
إن الاستغراق في الحياة اليومية وفي ما ذكرناه من ممارسات مبتذلة أوجدها الإنسان لملء الفراغ، هو نوع من الهروب الآمن لحظيا، حتى يمنع الأسئلة من مداهمته حين يَفرَغ وقته كما تفعل عادة، بيد أنه هروب إلى الأمام فإشكالات مرتبطة بعناصر وجود الإنسان ستعاوده ولو بعد حين، ولو في آخر حياته عندما يصير الوقت تحصيل حاصل، ولن تطاوعه قواه الفكرية ولا الجسدية لتتبعها، لذا فإننا مطالبون على الأقل أن نتعاطى مع السؤال التالي بشكل جريء وهادئ : كيف يجب أن نعيش؟ إنه أكثر الأسئلة إلحاحا وأشدها حساسية من حيث يتوقف عليه نمط تفكيرنا وتفاعلنا وعبورنا بممر الحياة، أما الأسئلة الأخرى سنعرف إجاباتها الأخرى لاحقا عندما نغادر هذا العالم، ولا يمكن الإجابة على السؤال المذكور بشكل نهائي، لكن لنقترح العمل والإبداع أولا، والانفتاح ونبذ الظلم والكسل والجهل ثانيا، ولنقترح المحبة أولا وثانيا وأخيرا عنوانا أكبر لما يجب أن تكون عليه رحلة البشرية على كوكب بهذا الصغر في كون بهذه الرحابة والغربة والغرابة.